[b]
أزمة الزراعة السودانية المستفحلة والتي
ترجع أسبابها للسياسات الحكومية المتعاقبة خاصة بعد العام 1989 ، سبقت في
حدوثها بوقت طويل الأزمة المالية العالمية ، فرغم ما يمثله قطاع الزراعة
من أهمية قصوى للاقتصاد السوداني حيث يعمل به بصورة مباشرة وغير مباشرة ما
يقرب من 40% من القوى العاملة ، وتوفيره لحوالي 30% من الدخل الإجمالي
القومي إلا أن السياسات الأقتصادية الكلية في السودان المطبقة على هذا
القطاع أدت لانهياره، وذلك تحت دعاوى تحرير الأقتصاد(الزراعة)، وأنكار
الآثار المدمرة للأزمة المالية العالمية.
لقد أدت هذه السياسات إلى
انهيار زراعة القطن حيث انخفضت المساحة المزروعة من أكثر من نصف المليون
فدان حتى الثمانينيات إلى أقل من 100 ألف فدان في الوقت الحالي، واحتل
السودان مرتبة عالية عالميا بالنسبة لمعدلات استيراده للقمح، وأصبحنا
نستورد حوالي 80% من السلع الغذائية الأساسية كالزيوت والفول والعدس
والثوم والكثير من الكماليات، وهو ما تسبب في وقوع غالبية المزارعين تحت خط
الفقر، وتشريدهم من مواقع الأنتاج وزحفهم علي المدن الكبيرة وخاصة عاصمة
البلاد للعيش علي الهامش.
وبالرغم من أن الحكومة السودانية انتهجت
سياسة التصدير من أجل الاستيراد، في بعض الحالات وذلك بزراعة المحاصيل
التصديرية على حساب المحاصيل الزراعية الغذائية والصناعية الرئيسية وفتحت
الباب علي مصراعية للإستثمار البذخي والترفي دون التنموي والأنتاجي،
بإعتبار أن المحاصيل التصديرية كفيلة بتغطية جزء كبير من وارداتنا
الغذائية، كانت النتيجة ليس فقط النقص الخطير بالزراعات الأساسية مثل القطن
والذرة، بل الفشل الذريع أيضا في تصدير تلك الزراعات البديلة. وبذلك يصبح
حال السودان مثل حال تلك الدول التي يصفها د. جولد برج، الأستاذ بجامعة
هارفارد، وأحد كبار المفكرين الأمريكيين في المجال الزراعي، بأنها "سياسة
زراعة المحاصيل الترفيهية من أجل السوبر ماركت العالمي"، مؤكدا أنه في نفس
الوقت الذي ستطرد فيه هذه السياسة المحاصيل الغذائية اللازمة للاستهلاك
المحلي فإنها لن تجد سوقا في أمريكا وأوروبا؛ لأنها متخمة بمثل هذه السلع،
بالإضافة لعدم استيفائها للمعايير الجمالية من وجهة نظر مستهلكي الدول التي
صدرت إليها، وفي نفس الوقت سيعجز الناس عن شرائها لأنهم فقراء.
لقد
أضرت الحكومة بالزراعة السودانية من خلال ضرب التعاونيات بصورة عامة
والتعاونيات الزراعية بصورة خاصة، ففي الوقت الذي تلعب فيه التعاونيات
الزراعية دورا كبيرا في التعرف على مشاكل المزارعين واستكشاف حلولها أدت
سيطرة الحكومة عليها إلى من خلال لجان التسيير لإصابتها بالشلل والجمود،
وتحولها إلى دكاكين بلا روح لتسليم التقاوي والسماد، مع أن التعاونيات يمكن
أن تقوم بدور من خلال تجميع الجهود، والقضاء على الوسطاء الذين يحصلون على
المنتجات من المزارع بأقل الأسعار ويبيعونها بأعلى الأسعار.
أن تعويق
الحكومة لقيام الأتحادات التعاونية وإتحادات المزارعين يعد خروجا على
المواثيق الدولية، ومبادئ حقوق الإنسان، ومواثيق الأمم المتحدة؛ حيث يرفض
الحكام في السودان بشدة إقامة تنظيمات تعاونية زراعية حقيقة وفعالة وفقا
للأسس والمبادئ التعاونية ؛ أسوة بكثير من دول العالم خاصة العالم الثالث،
والحجة أن الحركة التعاونية غير مؤهلة لذلك، مع أن التجربة العالمية أثبتت
أن الحركات التعاونية تدافع عن المنتجين الزراعيين وعن الإنتاج الزراعي و
عن الحقوق المشروعة لأعضائها وحمايتهم من إهدار حقوقهم.
إن السبيل
للخروج من هذه الأزمة هو الأعتراف الشجاع بأصل المشكلة المتمثلة في ضعف
جدية الحكومة لتنمية وتطوير القطاع الزراعي والتي تتمثل في الفجوة الكبيرة
بين ما تثبته المواثيق الحكومية وتصريحات المسئولين والمستنفذين الحكوميين
وبين ما يحدث في الواقع الذي يشهد مزيدا من التدهور والخراب وخير مثال لذلك
ما جري لمشروع الجزيرة العريق من تصفية ودمار وخراب.
[/b]